فصل: طلق بن حبيب العنزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة

ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، الشاعر المشهور، يقال‏:‏ إنه ولد يوم توفي عمر بن الخطاب، وختن يوم مقتل عثمان، وتزوج يوم مقتل علي، فالله أعلم‏.‏

وكان مشهوراً بالتغزل المليح البليغ، كان يتغزل في امرأة يقال لها الثريا بنت علي بن عبد الله الأموية، وقد تزوجها سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فقال في ذلك عمر بن أبي ربيعة‏:‏

أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان

هي شاميةٌ إذا ما استقلت * وسهيل إذا استقل يمان

ومن مستجاد شعره ما أورده ابن خلكان‏:‏

حيّ طيفاً من الأحبة زارا * بعد ما برح الكرى السمَّارا ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/110‏)‏

طارقاً في المنام بعد دجى * الليل خفيا بأن يزور نهارا

قلت‏:‏ ما بالنا جفينا وكنّا * قبل ذاك الأسماع والأبصارا قال‏:‏ إنا كما عهدت ولكن * شغل الحلي أهلهُ أن يعارا

 بلال بن أبي الدرداء

ولي إمرة دمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم عزله عبد الملك بأبي إدريس الخولاني‏.‏

كان بلال حسن السيرة، كثير العبادة، والظاهر أن هذا القبر الذي بباب الصغير الذي يقال له قبر بلال إنما هو قبر بلال بن أبي الدرداء، لا قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فإن بلالاً المؤذن دفن بداريا، والله أعلم‏.‏

 بشر بن سعيد المزني

السيد العابد الفقيه، كان من العباد المنقطعين الزهاد المعروفين، توفي بالمدينة‏.‏

 زرارة بن أوفى

ابن حاجب العامري، قاضي البصرة، كان من كبار علماء أهل البصرة وصلحائها، له روايات كثيرة، قرأ مرة في صلاة الصبح سورة المدثر، فلما بلغ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏8‏]‏ خر ميتاً، توفي بالبصرة وعمره نحو سبعين سنة‏.‏

 خبيب بن عبد الله

ابن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد له في ذلك فمات، ثم عزل عمر بعده بأيام قليلة، فكان يتأسف على ضربه له ويبكي، مات بالمدينة‏.‏

 حفص بن عاصم

ابن عمر بن الخطاب المدني، له رواياتٌ كثيرةٌ وكان من الصالحين، توفي بالمدينة‏.‏

 سعيد بن عبد الرحمن

ابن عتاب بن أسيد الأموي، أحد الأشراف بالبصرة، كان جواداً ممدحاً، وهو أحد الموصوفين بالكرم، قيل إنه أعطى بعض الشعراء ثلاثين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/111‏)‏

 فروة بن مجاهد

قيل‏:‏ إنه كان من الأبدال، أسر مرة وهو في غزوة هو وجماعة معه فأتوا بهم الملك فأمر بتقييدهم وحبسهم في المكان والاحتراز عليهم إلى أن يصبح فيرى فيهم رأيه، فقال لهم فروة‏:‏ هل لكم في المضي إلى بلادنا‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما ترى ما نحن فيه من الضيق‏؟‏ فلمس قيودهم بيده فزالت عنهم، ثم أتى باب السجن فلمسه بيده فانفتح، فخرجوا منه ومضوا، فأدركوا جيش المسلمين قبل وصولهم إلى البلد‏.‏

 أبو الشعثاء جابر بن زيد

كان لا يماكس في ثلاث‏:‏ في الكرى إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها لتعتق، وفي الأضحية‏.‏

وقال‏:‏ لا تماكس في شيء يتقرب به إلى الله‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ كان أبو الشعثاء مسلماً عند الدينار والدرهم، قلت‏:‏ كما قيل‏:‏

إني رأيت فلا تظنوا غيره * أن التورع عند هذا الدرهم

فإذا قدرت عليه ثم تركته * فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم

وقال أبو الشعثاء‏:‏ لأن أتصدق بدرهم على يتيم ومسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام‏.‏

كان أبو الشعثاء من الذين أوتوا العلم، وكان يفتي في البصرة، وكان الصحابة مثل جابر بن عبد الله إذا سأله أهل البصرة عن مسألة يقول‏:‏ كيف تسألونا وفيكم أبو الشعثاء‏؟‏ وقال له جابر بن عبد الله‏:‏ يا ابن زيد إنك من فقهاء البصرة، وإنك ستستفتى فلا تفتين إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك فقد هلكت وأهلكت‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ ما رأيت أحداً أعلم بفتيا من جابر ابن زيد‏.‏

وقال إياس بن معاوية‏:‏ أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد من أهل عمان‏.‏

وقال قتادة لما دفن جابر بن زيد‏:‏ اليوم دفن أعلم أهل الأرض‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ عن عمرو بن دينار، قال أبو الشعثاء‏:‏ كتب الحكم بن أيوب نفراً لقضاء أنا أحدهم - أي عمرو - فلو أني ابتليت بشيء منه لركبت راحلتي وهربت من الأرض‏.‏

وقال أبو الشعثاء‏:‏ نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك‏.‏

وأخذ مرة قبضة تراب من حائط فلما أصبح رماها في الحائط، وكان الحائط لقوم، قالوا‏:‏ لو كان كلما مر به أخذ منه قبضة لم يبق منه شيء‏.‏

وقال أبو الشعثاء‏:‏ إذا جئت يوم الجمعة إلى المسجد فقف على الباب وقل‏:‏ اللهم اجعلني اليوم أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من دعاك ورغب إليك‏.‏

وقال سيار، حدثنا حماد بن زيد، ثنا الحجاج بن أبي عيينة، قال‏:‏ كان جابر ابن زيد يأتينا في مصلانا، قال‏:‏ فأتانا ذات يوم وعليه نعلان خلقان، فقال‏:‏ مضى من عمري ستون سنة، نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه إلا أن يكون خير قدمته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/112‏)‏

وقال صالح الدهان‏:‏ كان جابر ابن زيد إذا وقع في يده ستوق كسره ورمى به لئلا يغر به مسلم‏.‏ الستوق‏:‏ الدرهم المغاير، أو الدغل، وقيل‏:‏ هو المغشوش‏.‏

وروى الإمام أحمد، حدثنا أبو عبد الصمد العمى، حدثنا مالك بن دينار، قال‏:‏ دخل علي جابر ابن زيد وأنا أكتب المصحف، فقلت له‏:‏ كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء‏؟‏ قال‏:‏ نعم الصنعة صنعتك تنقل كتاب الله ورقة إلى ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به‏.‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ سألته عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 75‏]‏ قال‏:‏ ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ‏{‏ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 75‏]‏ وقال سفيان، حدثني أبو عمير الحارث بن عمير، قال‏:‏ قالوا لجابر بن زيد عند الموت‏:‏ ما تشتهي وما تريد‏؟‏ قال‏:‏ نظرة إلى الحسن، وفي رواية عن ثابت، قال‏:‏ لما ثقل على جابر بن زيد قيل له‏:‏ ما تشتهي‏؟‏ قال‏:‏ نظرة إلى الحسن، قال ثابت‏:‏ فأتيت الحسن فأخبرته، فركب إليه فلما دخل عليه قال لأهله‏:‏ أقعدوني، فجلس فما زال يقول‏:‏ أعوذ بالله من النار وسوء الحساب‏.‏

وقال حماد بن زيد، حدثنا حجاج بن أبي عيينة، قال سمعت هنداً بنت المهلب بن أبي صفرة - وكانت من أحسن النساء - وذكروا عندها جابر بن زيد فقالوا‏:‏ إنه كان إباضياً، فقالت‏:‏ كان جابر بن زيد أشد الناس انقطاعاً إلي وإلى أمي، فما أعلم عنه شيئاً، وكان لا يعلم شيئاً يقربني إلى الله عز وجل إلا أمرني به، ولا شيئاً يباعدني عن الله إلا نهاني عنه، وما دعاني إلى الإباضية قط، ولا أمرني بها، وكان ليأمرني أين أضع الخمار - ووضعت يدها على الجبهة -‏.‏

أسند عن جماعة من الصحابة، ومعظم روايته عن ابن عمر وابن عباس‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين

فيها غزا العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل إنه فتح أنطاكية، وغزا أخوه عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، وبلغ يزيد بن أبي كبشة أرض سورية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/113‏)‏

وفيها كانت الرجفة بالشام‏.‏

وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك سندرة من أرض الروم‏.‏

وفيها فتح الله على الإسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك، على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه حتى عاد الجهاد شبيهاً بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند وغنم أموالاً لا تعد ولا توصف، وقد ورد في غزو الهند حديث رواه الحافظ ابن عساكر وغيره‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش وفرغانة حتى بلغ خُجَنْدة، وكاشان مدينتي فرغانة، وذلك بعد فراغه من الصغد وفتح سمرقند، ثم خاض تلك البلاد يفتح فيها حتى وصل إلى كابل فحاصرها وافتتحها، وقد لقيه المشركون في جموع هائلة من الترك فقاتلهم قتيبة عند خجندة فكسرهم مراراً وظفر بهم، وأخذ البلاد منهم، وقتل منهم خلقاً وأسر آخرين، وغنم أموالاً كثيرةً جداً‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقد قال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة التي هي قريبة من بلاد الصين أبياتاً في ذلك‏:‏

فسل الفوارس في خجنـ * ـدة تحت مرهفة العوالي

هل كنت أجمعهم إذا * هزموا وأقدم في قتالي

أم كنت أضرب هامة الـ * ـعاتي وأصبر للنزال

هذا وأنت قريع قيـ *ـس كله ضخم النوال

وفضلت قيساً في الندى * وأبوك في الحجج الخوالي

تمَّت مروءتكم ونا * غى عزكم غلب الجبال

ولقد تبين حكمك * فيهم في كل مال

هكذا ذكر ابن جرير هذا من شعر سحبان وائل في هذه الغزوة‏.‏ وقد ذكرنا ما أورده ابن الجوزي في منتظمه أن سحبان وائل مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان بعد الخمسين، فالله أعلم‏.‏

 مقتل سعيد بن جبير رحمه الله

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير، وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك، فلما خلعه ابن الأشعث خلعه معه سعيد بن جبير، فلما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع بذلك سعيد هرب منها، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 114‏)‏ ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج، ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري، فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها، فقال سعيد‏:‏ والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره‏؟‏ وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود، فتعلم منه خالد بن الوليد القسري، فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر وعمرو بن دينار وطلق ابن حبيب، ويقال إن الحجاج أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواماً من أهل الشقاق، فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار لأنهما من أهل مكة وبعث بأولئك الثلاثة، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس فما زال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد ابن جبير فلما أوقف بين يدي الحجاج قال له‏:‏ يا سعيد ألم أشركك في أمانتي‏؟‏ ألم أستعملك‏؟‏ ألم أفعل‏؟‏ ألم أفعل‏؟‏ كل ذلك يقول‏:‏ نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلي سبيله حتى قال له‏:‏ فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين، فقال سعيد‏:‏ إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم علي، فغضب عند ذلك الحجاج غضباً شديداً، وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية، قال‏:‏ بلى ‏!‏ قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك‏؟‏ يا حرسي اضرب عنقه‏.‏ قال‏:‏ فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لا طئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له‏:‏ أما أعطيتك مائة ألف‏؟‏ أما فعلت أما فعلت‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال‏:‏ سمعت خلف بن خليفة، يذكر عن رجل قال لما قتل الحجاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلل ثلاثاً مرة يفصح بها، وفي الثنتين يقول‏:‏ مثل ذلك لا يفصح بها‏.‏

وذكر أبو بكر الباهلي قال‏:‏ سمعت أنس بن أبي شيخ يقول‏:‏ لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال‏:‏ لعن ابن النصرانية - يعني خالد القسري وكان هو الذي أرسل به من مكة - أما كنت أعرف مكانه، بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة، ثم أقبل عليه فقال‏:‏ يا سعيد ما أخرجك علي‏؟‏ فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى، فطابت نفس الحجاج وانطلق وجهه، ورجا الحجاج أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شيء، فقال سعيد‏:‏ إنما كانت بيعة في عنقي، فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/115‏)‏

وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال‏:‏ أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب وقد وضع إحدى رجليه في الغرز، فقال‏:‏ والله لا أركب حتى تتبوأ مقعدك من النار، اضربوا عنقه، فضربت عنقه‏.‏ قال‏:‏ والتبس الحجاج في عقله مكانه فجعل يقول‏:‏ قيودنا قيودنا فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود‏.‏

وقال محمد بن أبي حاتم، ثنا عبد الملك بن عبد الله، عن هلال بن خباب، قال‏:‏ جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال‏:‏ كتبت إلى مصعب بن الزبير‏؟‏ فقال‏:‏ بلى كتبت إلى مصعب، قال‏:‏ لا والله لأقتلنك، قال‏:‏ إني إذاً لسعيد كما سمتني أمي، قال‏:‏ فقتله فلم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يوماً، وكان إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول‏:‏ يا عدو الله فيم قتلتني‏؟‏ فيقول الحجاج‏:‏ مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير‏؟‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان سعيد بن جبير بن هشام الأسدي مولى بني والبة كوفيا أحد الأعلام من التابعين، وكان أسود اللون، وكان لا يكتب على الفتيا فلما عمي ابن عباس كتب، فغضب ابن عباس من ذلك وذكر مقتله كنحو ما تقدم، وذكر أنه كان في شعبان، وأن الحجاج مات بعده في رمضان، وقيل قبل بستة أشهر، وذكر عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج - أو قال مفتقر - إلى علمه ويقال‏:‏ إن الحجاج لم يسلط بعده على أحد، وسيأتي في ترجمة الحجاج أيضاً شيء من هذا، قال ابن جرير‏:‏ وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لأنه مات فيها عامة فقهاء المدينة، مات في أولها علي بن الحسين بن زين العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن جبير من أهل مكة، وقد ذكرنا تراجم هؤلاء في كتابنا التكميل، وسنذكر طرفاً صالحاً هاهنا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ واستقضى الوليد بن عبد الملك في هذه السنة على الشام سليمان بن صرد، وحج بالناس فيها العباس بن الوليد، ويقال‏:‏ مسلمة بن عبد الملك، وكان على نيابة مكة خالد القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى الكوفة من جهة الحجاج زياد بن جرير، وعلى فضائها أبو بكر بن أبي موسى، وعلى إمرة البصرة من جهة الحجاج الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/116‏)‏

 ذكر من توفي فيها من المشاهير والأعيان

 سعيد بن جبير الأسدي

الوالي مولاهم أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، الكوفي المكي من أكابر أصحاب ابن عباس، كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح، رحمه الله، وقد رأى خلقاً من الصحابة، وروى عن جماعة منهم، وعنه خلق من التابعين، يقال إنه كان يقرأ القرآن في الصلاة فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة، وكان يقعد في الكعبة القعدة فيقرأ فيها الختمة، وربما قرأها في ركعة في جوف الكعبة، وروي عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفاً في الصلاة في ليلة في الكعبة، وقال سفيان الثوري‏:‏ عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال‏:‏ لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه‏.‏

وكان في جملة من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فلما ظفر الحجاج هرب سعيد إلى أصبهان ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين مرة للعمرة ومرة للحج، وربما دخل الكوفة في بعض الأحيان فحدث بها، وكان بخراسان لا يتحدث لأنه كان لا يسأله أحد عن شيء من العلم هناك، وكان يقول‏:‏ إن مما يهمني ما عندي من العلم وددت أن الناس أخذوه، واستمر في هذا الحال مختفياً من الحجاج قريباً من ثنتي عشرة سنة، ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج، وكان مخاطبته له ما ذكرناه قريباً‏.‏

وقال أبو نعيم في كتابه الحلية، ثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن أحمد ابن أبي خلف، ثنا شعبان، عن سالم بن أبي حفصة، قال‏:‏ لما أتى بسعيد بن جبير إلى الحجاج قال له‏:‏ أنت الشقي بن كسير‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏!‏إنما أنا سعيد بن جبير، قال‏:‏ لأقتلنك، قال‏:‏ أنا إذا كما سمتني أمي سعيداً ‏!‏ قال‏:‏ شقيت وشقيت أمك، قال‏:‏ الأمر ليس إليك، ثم قال‏:‏ اضربوا عنقه، فقال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين، قال‏:‏ وجهوه إلى قبلة النصارى، قال‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ قال‏:‏ إني أستعيذ منك بما استعاذت به مريم، قال‏:‏ وما عاذت به‏؟‏ قال‏:‏ قالت‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏ قال سفيان‏:‏ لم يقتل بعده إلا واحداً، وفي رواية أنه قال له‏:‏ لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال‏:‏ لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً‏.‏ وفي رواية‏:‏ أنه لما أراد قتله قال‏:‏ وجهوه إلى قبلة النصارى، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ فقال‏:‏ اجلدوا به الأرض، فقال‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ فقال‏:‏ اذبح فما أنزعه لآيات الله منذ اليوم‏.‏ فقال‏:‏ اللهم لا تسلطه على أحد بعدي‏.‏ وقد ذكر أبو نعيم هنا كلاماً كثيراً في مقتل سعيد ابن جبير أحسنه هذا، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/117‏)‏

وقد ذكرنا صفة مقتله إياه، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله، أكثرها لا يصح، وقد عوقب الحجاج بعده وعوجل بالعقوبة، فلم يلبث بعد إلا قليلاً، ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما سنذكر وفاته في السنة الآتية، فقيل‏:‏ إنه مكث بعده خمسة عشر يوماً، وقيل أربعين يوماً، وقيل‏:‏ ستة أشهر، والله أعلم‏.‏

واختلفوا في عمر سعيد بن جبير رحمه الله حين قتل، فقيل‏:‏ تسعاً وأربعين سنة، وقيل‏:‏ سبعاً وخمسين فالله أعلم، قال أبو القاسم اللالكائي‏:‏ كان مقتله في سنة خمس وتسعين، وذكر ابن جرير مقتله في هذه السنة، سنة أربع وتسعين، فالله أعلم‏.‏

قلت هاهنا كلمات حسان من كلام سعيد بن جبير أحببت أن أذكرها‏.‏ قال‏:‏ إن أفضل الخشية أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته، وتحملك على طاعته، فتلك هي الخشية النافعة‏.‏ والذكر‏:‏ طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر له وإن كثر منه التسبيح وتلاوة القرآن‏.‏ قيل له‏:‏ من أعبد الناس‏؟‏ قال‏:‏ رجل اقترف من الذنوب فكلما ذكر ذنبه احتقر عمله‏.‏ وقال له الحجاج‏:‏ ويلك ‏!‏ فقال‏:‏ الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، فقال‏:‏ اضربوا عنقه، فقال‏:‏ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ رسول الله أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة فأنا خصمك عند الله، فذبح من قفاه فبلغ ذلك الحسن، فقال‏:‏ اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثة حتى وقع من جوفه دود فأنتن منه، فمات، وقال سعيد للحجاج لما أمر بقتله وضحك فقال له‏:‏ ما أضحكك‏؟‏ فقال‏:‏ أضحك من غيراتك عليَّ وحلم الله عنك‏.‏

 سعيد بن المسيب

ابن حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي أبو محمد المدنف، سيد التابعين على الإطلاق، ولد لسنتين مضتا وقيل بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، وقيل لأربع مضين منها، وقول الحاكم أبي عبد الله أنه أدرك العشرة وهم منه، والله أعلم‏.‏ ولكن أرسل عنهم كما أرسل كثيراً عن النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وروى عن عمر كثيراً، فقيل سمع منه، وعن عثمان وعلي وسعيد وأبي هريرة، وكان زوج ابنته، وأعلم الناس بحديثه، وروى عن جماعة من الصحابة، وحدث عن جماعة من التابعين، وخلق ممن سواهم، قال ابن عمر‏:‏ كان سعيد أحد المتقنين، وقال الزهري‏:‏ جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علماً غيره، وقال محمد بن إسحاق، عن مكحول، قال‏:‏ طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب، وقال الأوزاعي‏:‏ سئل الزهري ومكحول من أفقه من لقيتما‏؟‏ قالا‏:‏ سعيد بن المسيب، وقال غيره‏:‏ كان يقال له فقيه الفقهاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/118‏)‏ وقال مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، قال مالك‏:‏ وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه، وقال الربيع، عن الشافعي، أنه قال‏:‏ إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن‏.‏ وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ هي صحاح، قال‏:‏ وسعيد بن المسيب أفضل التابعين‏.‏ قال علي بن المديني‏:‏ لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به، وهو عندي أجل التابعين‏.‏ وقال أحمد بن عبد الله العجلي‏:‏ كان سعيد رجلاً صالحاً فقيهاً، كان لا يأخذ العطاء وكانت له بضاعة أربعمائة دينار، وكان يتجر في الزيت، وكان أعور، وقال أبو زرعة‏:‏ كان مدنياً ثقةً إماماً، وقال أبو حاتم‏:‏ ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة، قال الواقدي‏:‏ توفي في سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين عن خمس وسبعين سنة رحمه الله‏.‏

وكان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا والكلام فيما لا يعني، ومن أكثر الناس أدباً في الحديث، جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل‏:‏ وددت أنك لم تتعن، فقال‏:‏ إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع، وقال برد مولاه‏:‏ ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد، وقال ابن إدريس‏:‏ صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة، وقال سعيد‏:‏ لا تملؤا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة، وقال‏:‏ ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل الناس، وقال‏:‏ ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها إلا بمعصية الله تعالى‏.‏ وقال‏:‏ كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله‏.‏ وقال‏:‏ من استغنى بالله افتقر الناس إليه، وقال‏:‏ الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها في غير سبيلها، وقال‏:‏ إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه‏.‏ وقال‏:‏ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله‏.‏

وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين لكثير بن أبي وداعة، وكانت من أحسن النساء، وأكثرهم أدباً، وأعلمهم بكتاب الله، وسنة رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، وأعرفهم بحق الزوج - وكان فقيراً، فأرسل إليه بخمسة آلاف، وقيل‏:‏ بعشرين ألفا، وقال‏:‏ استنفق هذه‏.‏ وقصته في ذلك مشهورة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/119‏)‏ وقد كان عبد الملك خطبها لابنه الوليد فأبى سعيد أن يزوجه بها، فاحتال عليه حتى ضربه بالسياط كما تقدم، لما جاءت بيعة الوليد إلى المدينة في أيام عبد الملك، ضربه نائبه على المدينة هشام بن إسماعيل وأطافه المدينة، وعرضوه على السيف فمضى ولم يبايع، فلما رجفوا به رأته امرأة فقالت‏:‏ ما هذا الخزي يا سعيد‏؟‏ فقال‏:‏ من الخزي فررنا إلى ما ترين، أي لو أحببناهم وقعنا في خزي الدنيا والآخرة، وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتجر فيه ويقول‏:‏ اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 طلق بن حبيب العنزي

تابعي جليل روى عن أنس وجابر وابن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم، وعنه حميد الطويل والأعمش وطاووس، وهو من أقرانه وأثنى عليه عمرو بن دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة، ولكن تكلموا فيه من جهة أنه كان يقول بالأرجاء، وقد كان ممن خرج مع ابن الأشعث، وكان يقول تقووا بالتقوى، فقيل له‏:‏ صف لنا التقوى، فقال‏:‏ التقوى هي العمل بطاعة الله على نور من الله يرجو رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، أو يقوم بشكرها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين، وكان طلق لا يخرج إلى صلاة إلا ومعه شيء يتصدق به، وإن لم يجد إلا بصلاً، ويقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏ فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الله أعظم وأعظم‏.‏ قال مالك‏:‏ قتله الحجاج وجماعة من القراء منهم سعيد بن جبير، وقد ذكر ابن جرير فيما سبق أن خالد بن عبد الله القسري بعث من مكة ثلاثة إلى الحجاج، وهم مجاهد، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، فمات طلق في الطريق وحبس مجاهد، وكان من أمر سعيد ما كان والله أعلم‏.‏

 عروة بن الزبير بن العوام

القرشي الأسدي أبو عبد الله المدني، تابعي جليل روى عن أبيه وعن العبادلة ومعاوية والمغيرة وأبي هريرة، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وأم سلمة، وعنه جماعة من التابعين، وخلق ممن سواهم‏.‏ قال محمد بن سعد‏:‏ كان عروة ثقة كثير الحديث عالماً مأموناً ثبتاً‏.‏ وقال العجلي‏:‏ مدني تابعي رجل صالح لم يدخل في شيء من الفتن‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ كان فقيهاً عالماً حافظاً ثبتاً حجةً عالماً بالسير، وهو أول من صنف المغازي، وكان من فقهاء المدينة المعدودين، ولقد كان أصحاب رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يسألونه، وكان أروى الناس للشعر، وقال ابنه هشام‏:‏ العلم لواحد من ثلاثة، لذي حسب يزين به حسبه، أو ذي دين يسوس به دينه، أو مختلط بسلطان يتحفه بنعمه ويتخلص منه بالعلم، فلا يقع في هلكه، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/120‏)‏ وقال‏:‏ ولا أعلم أحداً اشترطه لهذه الثلاثة إلا عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وكان عروة يقرأ كل يوم ربع القرآن ويقوم به في الليل، وكان أيام الرطب يثلم حائطة للناس فيدخلون ويأكلون، فإذا ذهب الرطب أعاده، وقال الزهري‏:‏ كان عروة بحراً لا ينزف ولا تكدره الدلاء، وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما أحد أعلم من عروة، وما أعلمه يعلم شيئاً أجهله، وقد ذكره غير واحد في فقهاء المدينة السبعة الذين ينتهي إلى قولهم، وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة، وقد ذكر غير واحد أنه وفد على الوليد بدمشق، فلما رجع أصابته في رجله الأكلة، فأرادوا قطعها فعرضوا عليه أن يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يحس بالألم ويتمكنوا من قطعها، فقال‏:‏ ما ظننت أن أحداً يؤمن بالله يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن هلموا فاقطعوها فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم، ولا يعرف أنه أنَّ، وروي أنهم قطعوها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة، فالله أعلم‏.‏ ووقع في هذه الليلة التي قطعت فيها رجله ولد له يسمى محمداً كان أحب أولاده من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال‏:‏ اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت‏.‏ قلت‏:‏ قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الأكله في رجله في واد قرب المدينة، وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه‏.‏ وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها وقالوا له‏:‏ ألا نسقيك مرقداً حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر‏؟‏ فقال‏:‏ لا ‏!‏ والله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، قال‏:‏ فنشروا رجله من فوق الأكلة، من المكان الحي، احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تصور ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال‏:‏ اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت، قال‏:‏ وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد، وكان أحبهم إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات، فأتوه فعروه فيه، فقال‏:‏ الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت‏.‏ فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، قال‏:‏ فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال‏:‏ إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/121‏)‏

فأنشد عروة في ذلك والأبيات لمعن بن أوس‏:‏

لعمرك ما أهويت كفى لريبة * ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها * ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

ولست بماش ما حييت لمنكر * من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي

ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة * وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة * من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي

وفي رواية‏:‏ اللهم إنه كان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة‏.‏ كذا ذكر هذا الحديث فيه هشام‏.‏ وقال مسلمة بن محارب‏:‏ وقعت في رجل عروة الأكلة فقطعت ولم يمسكه أحد، ولم يدع في تلك الليلة ورده، وقال الأوزاعي‏:‏ لما نشرت رجل عروة قال‏:‏ اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط‏.‏ وأنشد البيتين المتقدمين‏.‏ رأى عروة رجلاً يصلي صلاة خفيفة فدعاه فقال‏:‏ يا أخي أما كانت لك إلى ربك حاجة في صلاتك‏؟‏ إني لأسأل الله في صلاتي حتى أسأله الملح‏.‏ قال عروة‏:‏ رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً‏.‏ وقال لبنيه‏:‏ إذا رأيتم الرجل يعمل الحسنة فاعلموا أن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم الرجل يعمل السيئة فاعلموا أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها‏.‏ وكان عروة إذا دخل حائطة ردد هذه الآية ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 39‏]‏ حتى يخرج منه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قيل إنه ولد في حياة عمر، والصحيح أنه ولد بعد عمر في سنة ثلاث وعشرين، وكانت وفاته في سنة أربع وتسعين على المشهور، وقيل سنة تسعين، وقيل سنة مائة، وقيل إحدى وتسعين، وقيل إحدى ومائة، وقيل سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين، وقيل تسع وتسعين فالله أعلم‏.‏

 علي بن الحسين

ابن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المشهور بزين العابدبن، وأمه أم ولد أسمها سلامة، وكان له أخ أكبر منه يقال له علي أيضاً، قتل مع أبيه، روى على هذا الحديث عن أبيه وعمه الحسن بن علي، وجابر وابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي هريرة وصفية وعائشة وأم سلمة، أمهات المؤمنين‏.‏ وعنه جماعة منهم بنوه زيد وعبد الله وعمر، وأبو جعفر محمد بن علي بن قر، وزيد بن أسلم، وطاووس وهو من أقرانه، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو سلمة وهو من أقرانه، وخلق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/122‏)‏

قال ابن خلكان‏:‏ كانت أم سلمة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالماً، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم، والأخرى للحسين بن علي فأولدها علياً زين العابدين، هذا فكلهم بنو خالة، قال ابن خلكان‏:‏ ولما قتل قتيبة بن مسلم فيروز ابن يزدجرد بعث يا بنتيه إلى الحجاج فأخذ إحداهما وبعث بالأخرى إلى الوليد، فأولدها الوليد يزيد الناقص‏.‏ وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أن زين العابدين هذا كانت أمه سندية، يقال لها، سلامة ويقال عزالة، وكان مع أبيه بكربلاء، فاستبقى لصغره، وقيل لمرضه فإنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وقد هم بقتله عبيد الله بن زياد، ثم صرفه الله عنه، وأشار بعض الفجرة على يزيد بن معاوية بقتله أيضاً فمنعه الله منه، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو عنده، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان على بالمدينة محترماً معظماً، قال ابن عساكر‏:‏ ومسجده بدمشق المنسوب إليه معروف‏.‏ قلت‏:‏ وهو مشهد علي بالناحية الشرقية من جامع دمشق، وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس، قال الزهري‏:‏ ما رأيت قرشياً أورع منه ولا أفضل‏.‏ وكان مع أبيه يوم قتل ابن ثلاث وعشرين سنة وهو مريض، فقال عمر ابن سعد‏:‏ لا تعرضوا لهذا المريض‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل، وكان إذا مشى لا يخطر بيده، وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه، وكان كنيته أبا الحسن، وقيل أبا محمد، وقيل أبا عبد الله‏.‏ وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقةً مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً، وأمه عزالة خلف عليها بعد الحسين مولاه زبيد فولدت له عبد الله بن زبيد، وهو عليِّ الأصغر، فأما الأكبر فقتل مع أبيه‏.‏ وكذا قال غير واحد، وقال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ومالك وأبو حازم‏:‏ لم يكن في أهل البيت مثله، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري‏:‏ سمعت علي ابن الحسين وهو أفضل هاشمي أدركته يقول‏:‏ يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً‏.‏ وفي رواية حتى بغضتمونا إلى الناس‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ لم يكن للحسين عقب إلا من علي بن الحسين، ولم يكن لعلي بن الحسين نسل إلا من ابن عمه الحسن، فقال له مروان بن الحكم‏:‏ لو اتخدت الساراري يكثر أولادك، فقال‏:‏ ليس لي ما أتسرى به، فأقرضه مائة ألف فاشترى له الساراري فولدت له وكثر نسله، ثم لما مرض مروان أوصى أن لا يؤخذ من علي بن الحسين شيء مما كان أقرضه، فجميع الحسينيين من نسله رحمه الله‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ أصح الأسانيد كلها الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، وذكروا أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي، فلما انصرف قالوا له‏:‏ مالك لم تنصرف‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/123‏)‏ فقال‏:‏ إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى، وكان إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ ألا تدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي‏؟‏

ولما حج أراد أن يلبي فارتعد وقال‏:‏ أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك، فيقال لي‏:‏ لا لبيك، فشجعوه على التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة‏.‏

وكان يصلي في كل يوم و ليلة ألف ركعة‏.‏

وقال طاووس‏:‏ سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول‏:‏ عبيدك بفنائك‏.‏ سائلك بفنائك‏.‏ فقيرك بفنائك، قال طاووس‏:‏ فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني‏.‏

وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل، وكان يقول‏:‏ صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم الله تعالى ماله مرتين‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به‏.‏

ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات‏.‏

ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فبكى ابن أسامة فقال له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ عليَّ دين، قال‏:‏ وكم هو‏؟‏ قال‏:‏ خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال‏:‏ هي عليَّ‏.‏

وقال علي بن الحسين‏:‏ كان أبو بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته‏.‏

ونال منه رجل يوماً فجعل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل‏:‏ إياك أعني، فقال له علي‏:‏ وعنك أغضي‏.‏

وخرج يوماً من المسجد فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال‏:‏ دعوه، ثم أقبل عليه فقال‏:‏ ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها‏؟‏ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول‏:‏ إنك من أولاد الأنبياء‏.‏

قالوا‏:‏ واختصم علي بن الحسين وحسن بن حسن - وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله، فقال‏:‏ يا ابن عم إن كنت صادقاً يغفر الله لي، وإن كنت كاذباً يغفر الله لك والسلام عليك، ثم رجع، فلحقه فصالحه‏.‏

وقيل له‏:‏ من أعظم الناس خطراً‏؟‏ فقال‏:‏ من لم ير الدنيا لنفسه قدراً‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته، وقال‏:‏ فقد الأحبة غربة‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكراً، فتلك عبادة الأحرار الأخيار‏.‏

وقال لابنه‏:‏ يا بني لا تصحب فاسقاً فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا بخيلاً فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذاباً فإنه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب، ولا أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا قاطع رحم فإنه ملعون في كتاب الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 22-23‏]‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/124‏)‏

وكان علي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جبير بن مطعم‏:‏ غفر الله لك، أنت سيد الناس تأتي تخطي حلق أهل العلم وقريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود‏؟‏ فقال له علي بن الحسين‏:‏ إنما يجلس الرجل حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حيث كان‏.‏

وقال الأعمش، عن مسعود بن مالك، قال‏:‏ قال لي علي بن الحسين‏:‏ أتستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير‏؟‏ فقلت‏:‏ ما تصنع به‏؟‏ قال‏:‏ أريد أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء - وأشار بيده إلى العراق -‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زر بن عبيد، قال‏:‏ كنت عند ابن عباس، فأتى علي بن الحسين فقال ابن عباس‏:‏ مرحباً بالحبيب ابن الحبيب‏.‏

وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي‏:‏ ثنا العلاء، ثنا إبراهيم بن بشار، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، قال‏:‏ كنا عند جابر بن عبد الله، فدخل عليه علي بن الحسين فقال‏:‏ كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الحسين بن علي فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يولد لابني هذا ابنُ يقال له‏:‏ علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ليقم سيد العابدين فيقوم هو هذا‏)‏‏)‏‏.‏ حديث غريب جداً أورده ابن عساكر‏.‏

وقال الزهري‏:‏ كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين، وما رأيت أفقه منه، وكان قليل الحديث، وكان من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك، وكان يسمى زين العابدين‏.‏

وقال جويرية بن أسماء‏:‏ ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً قط‏.‏ رحمه الله ورضي عنه‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأ علي بن محمد، عن سعيد بن خالد، عن المقبري، قال‏:‏ بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف فكره أن يقبلها وخاف أن يردها، فاحتبسها عنده، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ إن المختار بعث إلى بمائة ألف فكرهت أن أقبلها وكرهت أن أردها، فابعث من يقبضها‏.‏ فكتب إليه عبد الملك‏:‏ يا ابن عم ‏!‏ خذها فقد طيبتها لك، فقبلها‏.‏

وقال علي بن الحسين‏:‏ سادة الناس في الدنيا الأسخياء الأتقياء، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم الأتقياء، لأن العلماء ورثة الأنبياء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/125‏)‏

وقال أيضاً‏:‏ إني لأستحي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي‏:‏ فإذا كانت الجنة بيدك كنت بها أبخل، وأبخل وأبخل‏.‏

وذكروا أنه كان كثير البكاء فقيل له‏:‏ في ذلك فقال‏:‏ إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً‏؟‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ و قد كظمت غيظي‏.‏

قالت‏:‏ ‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ‏}‏‏.‏

فقال‏:‏ عفا الله عنك‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ أنت حرة لوجه الله تعالى‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ ثنا عبد الله بن إبراهيم بن قدامة اللخمي، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي، عن أبيه، قال‏:‏ جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم‏:‏ أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين الذين ‏{‏أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فأنتم من الذين ‏{‏تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا ‏!‏ فقال لهم‏:‏ أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏الآية، فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام ولستم من أهله‏.‏

وجاء رجل فسأله متى يبعث علي‏؟‏ فقال‏:‏ يبعث والله يوم القيامة و تهمُّه نفسه‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثت عن سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم، عن أبي حمزة الثمالي‏:‏ أن علي بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال‏:‏ اللهم إني أتصدق اليوم - أو أهب عرضي اليوم - من استحله‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا‏:‏ أن غلاماً سقط من يده سفود وهو يشوي شيئاً في التنور على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله، فنهض علي بن الحسين مسرعاً، فلما نظر إليه قال للغلام‏:‏ إنك لم تتعمد، أنت حر، ثم شرع في جهاز ابنه‏.‏

وقال المدائني‏:‏ سمعت سفيان، يقول‏:‏ كان علي بن الحسين يقول‏:‏ ما يسرني أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم‏.‏ ورواه الزبير بن بكار من غير وجه عنه‏.‏

ومات لرجل ولد مسرف على نفسه، فجزع عليه من أجل إسرافه، فقال له علي بن الحسين‏:‏ إن من وراء ابنك خلالاً ثلاثاً‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله عز وجل‏.‏

وقال المدائني‏:‏ قارف الزهري ذنباً فاستوحش منه وهام على وجهه وترك أهله وماله‏.‏ فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له‏:‏ يا زهري قنوطك من رحمه الله التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك، فقال الزهري‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه كان أصاب دماً حراماً خطأ، فأمره علي بالتوبة والاستغفار، وأن يبعث الدية إلى أهله، ففعل ذلك‏.‏

وكان الزهري يقول‏:‏ علي بن الحسين أعظم الناس علي منَّة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/126‏)‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كان علي بن الحسين يقول‏:‏ لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم، وما أصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة‏.‏

وذكروا أنه زوج أمه من مولى له، وأعتق أمة فتزوجها، فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك، فكتب إليه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ وقد أعتق صفية فتزوجها، وزوج مولاه زيد بن حارثة من بنت عمه زينب بنت جحش‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يلبس في الشتاء خميصة من خز بخمسين ديناراً، فإذا جاء الصيف تصدق بها، ويلبس في الصيف الثياب المرقعة ودونها، ويتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالاً له وهيبةً واحتراماً، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لا أعرفه - استنقاصاً به واحتقاراً لئلا يرغب فيه أهل الشام -فقال الفرزدق‏:‏ - وكان حاضراً - أنا أعرفه، فقالوا‏:‏ ومن هو‏؟‏ فأشار الفرزدق يقول‏:‏

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر

العلم

إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته * فما يكلَّم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصرها والخيم الشيم ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/127‏)‏

ينجاب نور الهدى من نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الغيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا

من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت لها الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت * عنها الغواية والإملاق والظلم

كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه اثنتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميمون بغيبته * رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر و قربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل حكم ومختوم به الكلم

إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحلّ الذم ساحتهم * خيم كرام وأيد بالندى هضم

لا ينقص العدم بسطاً من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

أي الخلائق ليست في رقابهم * لأولية هذا أوله نعم

فليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم

من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/128‏)‏

قال‏:‏ فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال‏:‏ إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياماً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء‏.‏ فأرسل إليه علي بن الحسين يقول‏:‏ قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه، ثم جعل يهجو هشاماً وكان مما قال فيه‏:‏

تحبسني بين المدينة و التي إليها * قلوب الناس تهوي منيبها

يقلِّب رأساً لم يكن رأس سيد * وعينين حولاوين باد عيوبها

وقد روينا عن علي بن الحسين أنه كان إذا مرت به الجنازة يقول هذين البيتين‏:‏

نراع إذا الجنائز قابلتنا * ونلهو حين تمضي ذاهبات

كروعة ثلة لمغار سبع * فلما غاب عادت راتعات

وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق محمد بن عبد الله المقري‏:‏ حدثني سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال‏:‏ سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه‏:‏

يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، ما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألَّافك‏؟‏ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك‏؟‏ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر‏.‏

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمهم تحت التراب الحفائر

كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون، وكم غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأمارس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس‏:‏

وأنت على الدنيا مكب منافس * لخطابها فيها حريص مكاثر

على خطر تمشي وتصبح لاهياً * أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

وإن امرءاً يسعى لدنياه دائباً * ويذهل عن أخراه لاشك خاسر ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/129‏)‏

فحتام على الدنيا إقبالك‏؟‏ وبشهواتك اشتغالك‏؟‏ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات‏:‏

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * عن اللهو واللذات للمرء زاجر

أبعد اقتراب الأربعين تربص * وشيب قذال منذر للكابر

كأنك معنى بما هو ضائر * لنفسك عمداً وعن الرشد حائر

انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمماً في التراب، إلى يوم الحشر والمآب‏:‏

أمسحوا رميماً في التراب وعطلت * مجالسهم منهم وأخلى مقاصر

وحلوا بدار لا تزاور بينهم * وأنىَّ لسكان القبور التزاور

فما أن ترى إلا قبوراً قد ثووا بها * مسطحة تسفى عليها الأعاصر

كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر‏.‏

فما صرفت كف المنية إذ أتت * مبادرة تهوي إليه الذخائر

ولا دفعت عنه الحصون التي بنى * وحف بها أنهاره والدساكر

ولا قارعت عنه المنية حيلة * ولا طمعت في الذب عنه العساكر

أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان‏.‏

وأباد بقوته كل ديان‏.‏

مليك عزيز لا يرد قضاؤه * حكيم عليم نافذ الأمر قاهر

عنى كل عز لعزة وجهه * فكم من عزيز للمهيمن صاغر

لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر

فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها، وما نصبت لك من مصايدها، وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/130‏)‏

وفي دون ما عاينت من فجعاتها * إلى دفعها داع وبالزهد آمر

فجد ولا تغفل وكن متيقظاً * فعما قليل يترك الدار عامر

فشمر ولا تفتر فعمرك زائل * وأنت إلى دار الإقامة صائر

ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها * وإن نلت منها غبهُ لك ضائر

فهل يحرص عليها لبيب، أو يسر بها أريب‏؟‏ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات‏:‏

ألا لا ولكنا نغرُّ نفوسنا * وتشغلنا اللذات عمَّا نحاذر

وكيف يلذ العيش من هو موقفٌ * بموقف عدل يوم تبلى السرائر

كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدىً مالنا بعد الممات مصادر

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها‏.‏

أما قد نرى في كل يوم وليلة * يروح علينا صرفها ويباكر

تعاورنا آفاتها وهمومها * وكم قد ترى يبقى لها المتعاوِرُ

فلا هو مغبوط بدنياه آمن * ولا هو عن تَطلابها النفس قاصر

كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمه‏.‏

بل أوردته بعد عز ومنعة * موارد سوء مالهنَّ مصادر

فلما رأى أن لا نجاة وأنه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر

تندم إذ لم تغن عنه ندامة * عليه وأبكته الذنوب الكبائر

إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزل البلية‏.‏

أحاطت به أحزانه وهمومه * وأبلس لما أعجزته المقادر

فليس له من كربة الموت فارج * وليس له مما يحاذر ناصر

وقد جشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللها والحناجر

هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/131‏)‏

فكم موجع يبكي عليه مفجعٌ * ومستنجد صبراً وما هو صابر

ومسترجع داع له الله مخلصاً * يعدد منه كل ما هو ذاكر

وكم شامتٍ مستبشر بوفاته * وعما قليل للذي صار صائر

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لإبرازه‏.‏ كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى‏.‏

وحل أحبَّ القوم كان بقربه * يحثُّ على تجهيزه ويبادر

وشمرَّ من قد أحضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حافر

وكفن في ثوبين واجتمعت له * مشيعة إخوانه والعشائر

فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول‏:‏ يا ويلاه واحرباه‏:‏

لعاينت من قبح المنية منظراً * يهال لمرآه ويرتاع ناظر

أكابر أولاد يهيج اكتئابهم * إذا ما تناساه البنون الأصاغر

وربَّة نسوان عليه جوازع * مدامعهم فوق الخدود غوازر

ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله وأحطت به خطاياه، وضاق ذرعاً بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه هنا بما كسب وطلب‏.‏

فولوا عليه معولين وكلهم * لمثل الذي لاقى أخوه محاذر

كشاءِ رتاع آمنين بدا لها * بمديته بادي الذراعين حاسر

فريعت ولم ترتع قليلاً وأجفلت * فلما نأى عنها الذي هو جازر

عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا‏؟‏ أم على عادتها جرينا‏؟‏ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى‏.‏

ثوى مفرداً في لحده وتوزعت * مواريثه أولاده والأصاهر

وأحنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها وشاكر

فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها * ويا آمناً من أن تدور الدوائر

كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة‏؟‏ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك‏؟‏ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك‏؟‏ أم كيف تهنأ بالشهوات، وهي مطية الآفات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 132‏)‏

ولم تتزود للرحيل وقد دنا * وأنت على حال وشيك مسافر

فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي * وعمري فانٍ والردى لي ناظر

وكل الذي أسلفت في الصحف مثبتٌ * يجازي عليه عادل الحكم قادر

فكم ترقع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن‏؟‏ أم على هذا نزل القرآن‏؟‏ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب‏؟‏ أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً‏:‏

تخرب ما يبقى وتعمر فانياً * فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر

وهل لك إن وافاك حتفك بغتة * ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر

أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافر

وقد اختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها علي بن الحسين، زين العابدين، فالمشهور عن الجمهور أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة أربع وتسعين - في أولها عن ثمان وخمسين سنة، وصلى عليه بالبقيع، ودفن به، قال الفلاس‏:‏ مات علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، سنة أربع وتسعين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ توفي سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين‏.‏

وأغرب المدائني في قوله‏:‏ إنه توفي سنة تسع وتسعين، والله أعلم‏.‏ انتهى ما ذكره المؤلف من ترجمة علي بن الحسين

وقد رأيت له كلاماً متفرقاً وهو من جيد الحكمة، فأحببت أن أذكره لعل الله أن ينفع به من وقف عليه‏:‏

قال حفص بن غياث‏:‏ عن حجاج، عن أبي جعفر، عن علي بن الحسين، قال‏:‏ إن الجسد إذا لم يمرض أشر وبطر، ولا خير في جسد يأشر ويبطر‏.‏

وقال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ حدثنا أحمد بن الصلت، حدثنا قاسم بن إبراهيم العلوي، حدثنا أبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال‏:‏ قال علي بن الحسين‏:‏ فقد الأحبة غربة‏.‏

وكان يقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي، اللهم كما أسأت وأحسنت إليَّ، فإذا عدت فعد إليَّ‏.‏ اللهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت علي من فضلك‏.‏

وقال لابنه‏:‏ يا بني اتخذ ثوباً للغائط، فإني رأيت الذباب يقع على الشيء ثم يقع على الثوب‏.‏ ثم انتبه فقال‏:‏ وما كان لرسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأصحابه إلا ثوب واحد، فرفضه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/133‏)‏

وعن حمزة الثمالي قال‏:‏ أتيت باب علي بن الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت على الباب حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد علي السلام ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط فقال‏:‏ يا حمزة ترى هذا الحائط‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ فإني اتكأت عليه يوماً وأنا حزين فإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي، ثم قال‏:‏ يا علي بن الحسين ‏!‏ مالي أراك كئيباً حزيناً على الدنيا ‏!‏ فهي رزق حاضر يأخذ منها البر الفاجر‏.‏ فقلت‏:‏ ما عليها أحزن لأنها كما تقول، فقال‏:‏ على الآخرة‏؟‏ فهي وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، فقلت‏:‏ ما على هذا أحزن لأنه كما تقول‏.‏ فقال‏:‏ فعلام حزنك‏؟‏ فقلت‏:‏ ما أتخوف من الفتنة - يعني فتنة ابن الزبير - فقال لي‏:‏ يا علي ‏!‏ هل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه‏؟‏ قلت‏:‏ لا ‏!‏ قال‏:‏ ويخاف الله فلم يكفه‏؟‏ قلت‏:‏ لا ‏!‏ ثم غاب عني فقيل لي‏:‏ يا علي إن هذا الخضر الذي جاءك، لفظ الخضر مزاد فيه من بعض الرواة‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الخضري، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عمر بن حارث‏.‏ قال‏:‏ لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره‏.‏ فقالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ كان يحمل جُرُب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة‏.‏ وقال ابن عائشة‏:‏ سمعت أهل المدينة يقولون‏:‏ ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين‏.‏

وروى عبد الله بن حنبل، عن ابن اشكاب، عن محمد بن بشر، عن أبي المنهال الطائي، أن علي بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله‏.‏

وقال الطبري‏:‏ حدثنا يحيى بن زكريا الغلابي، حدثنا العتبي، حدثني أبي، قال‏:‏ قال علي بن الحسين - وكان من أفضل بني هاشم الأربعة -‏:‏ يا بني اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخاك إلا في الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك‏.‏

وروى الطبراني بإسناده عنه‏:‏ أنه كان جالساً في جماعة فسمع داعية في بيته، فنهض فدخل منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له‏:‏ أمن حدث كانت الداعية‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال‏:‏ إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره‏.‏

وروى الطبراني، عنه، قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى الجنة‏.‏ فتلقاهم الملائكة فيقولون‏:‏ إلى أين‏؟‏ فيقولون‏:‏ إلى الجنة‏.‏ فيقولون‏:‏ قبل الحساب‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن أهل الفضل، قالوا‏:‏ وما كان فضلكم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا إذا جهل علينا حلمنا ، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، قالوا لهم‏:‏ ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏ ثم ينادي مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون‏:‏ نحن أهل الصبر، قالوا‏:‏ فما كان صبركم‏؟‏ قالوا‏:‏ صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرناها على البلاء‏.‏ فقالوا لهم‏:‏ ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏ ثم ينادي المنادي‏:‏ ليقم جيران الله في داره ‏!‏ فيقوم ناس من الناس و هم قليل، فيقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون‏:‏ بم استحققتم مجاورة الله عز وجل في داره‏؟‏ فيقولون‏:‏ كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله عز وجل‏.‏ فيقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/134‏)‏

وقال علي بن الحسين‏:‏ إن الله يحب المؤمن المذنب التواب‏.‏

وقال‏:‏ التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي منهم تقاة‏.‏ قالوا‏:‏ وما تقاه‏؟‏ قال‏:‏ يخاف جباراً عنيداً أن يسطو عليه، وأن يطغى‏.‏

وقال رجل لسعيد بن المسيب‏:‏ ما رأيت أحداً أورع من فلان‏.‏ فقال له سعيد‏:‏ هل رأيت علي بن الحسين‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏!‏ قال‏:‏ ما رأيت أورع منه‏.‏

وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال‏:‏ دخلت على علي بن الحسين، فقال‏:‏ يا زهري فيم كنتم‏؟‏ قلت‏:‏ كنا نتذاكر الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب، إلا شهر رمضان، فقال‏:‏ يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجهاً، عشرة منها واجب كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربع عشرة منها صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب، قال الزهري‏:‏ قلت‏:‏ فسرهن يا ابن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، قال‏:‏ أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصوم شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، وصيام ثلاثة أيام كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، وصيام حلق الرأس، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، وصوم جزاء الصيد، يقوم الصيد قيمته ثم يقسم ذلك الثمن على الحنطة‏.‏ وأما الذي صاحبه بالخيار‏:‏ فصوم الاثنين والخميس، وستة أيام من شوال بعد رمضان، وصوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار‏.‏ فأما صوم الأذن‏:‏ فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة، وأما صوم الحرام‏:‏ فصوم يوم الفطر، والأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه لرمضان‏.‏ وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر، وصوم الضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏‏(‏من نزل على قوم فلا يصومنَّ تطوعاً إلا بإذنهم‏)‏‏)‏‏.‏ وأما صوم الإباحة‏:‏ فمن أكل أو شرب ناسياً أجزأه صومه، وأما صوم المريض والمسافر، فقال قوم‏:‏ يصوم، وقال قوم‏:‏ لا يصوم، وقال قوم‏:‏ إن شاء صام وإن شار أفطر، وأما نحن فنقول‏:‏ يفطر في الحالين، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء‏.‏

 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث

ابن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني، أحد الفقهاء السبعة، قيل‏:‏ اسمه محمد، وقيل‏:‏ اسمه أبو بكر، وكنيته‏:‏ أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وله من الأولاد والأخوة كثير‏.‏

وهو تابعي جليل، روى عن عمار، وأبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/135‏)‏

وعنه جماعة منهم‏:‏ بنوه سلمة، وعبد الله، وعبد الملك، وعمر، ومولاه سمي، وعامر الشعبي، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، ومجاهد، والزهري‏.‏

ولد في خلافة عمر، وكان يقال له‏:‏ راهب قريش، لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً، وكان يصوم الدهر، وكان من الثقة والأمانة والفقه وصحة الرواية على جانب عظيم‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وكان قد كف وكان إذا سجد يضع يده في طست لعلة كان يجدها‏.‏

والصحيح أنه مات في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي قبلها، وقيل‏:‏ في التي بعدها، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ونظم بعض الشعراء بيتين ذكر فيهما الفقهاء السبعة فقال‏:‏

ألا كل من لا يقتدي بأئمة * فقسمته حبراً عن الحق خارجه

فخذهم عبيد الله عروة قاسم * سعيد أبو بكر سليمان خارجه

وفيها توفي الفضيل بن زيد الرقاشي، أحد زهاد أهل البصرة، وله مناقب وفضائل كثيرة جداً‏.‏

قال‏:‏ لا يلهينك الناس عن ذات نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت‏.‏

وقال‏:‏ لم أر شيئاً أحسن طلباً، ولا أسرع إدراكاً من حسنة حديثة لذنب قديم‏.‏

 أبو سلمة بن عبد الرحمن

ابن عوف الزهري، كان أحد فقهاء المدينة، وكان إماماً عالماً، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان واسع العلم‏.‏ توفي بالمدينة‏.‏

 عبد الرحمن بن عائذ

الأزدي، له روايات كثيرة، وكان عالماً، وخلف كتباً كثيرةً من علمه، روى عن جماعة من الصحابة، وأسر يوم وقعة ابن الأشعث فأطلقه الحجاج‏.‏

 عبد الرحمن بن معاوية بن خزيمة

قاضي مصر لعمر بن عبد العزيز بن مروان وصاحب شرطته، كان عالماً فاضلاً، روى الحديث، وعنه جماعة‏.‏